خبر ⁄سياسي

الصمغ العربي السوداني: تأثير الحرب وتحديات القيمة المضافة

الصمغ العربي السوداني: تأثير الحرب وتحديات القيمة المضافة

الصمغ العربي السوداني: تأثير الحرب وتحديات القيمة المضافة

عمر سيد أحمد

الصمغ العربي: مورد استراتيجي واقتصادي في السودان

يمثل الصمغ العربي أحد أبرز الموارد الطبيعية وأكثرها تأثيرًا في الاقتصاد السوداني والتجارة الدولية. يتمتع السودان بموقع ريادي عالمي في إنتاج هذا المنتج النباتي الاستراتيجي، إذ يُعد المنتج الأكبر عالميًا، مسيطرًا على نحو 70 إلى 80% من الإنتاج العالمي. يُستخرج الصمغ العربي أساسًا من نوعين من أشجار السنط هما: الهشاب (Acacia senegal) والطلح (Acacia seyal)، وتنتشر هذه الأشجار بكثافة في إقليم السافانا الفقيرة الذي يشمل ولايات كردفان، دارفور، القضارف، وأجزاء من النيل الأزرق وسنار.

تُشكّل صناعة الصمغ العربي مصدر رزق مباشر أو غير مباشر لأكثر من خمسة ملايين أسرة، ما يجعلها شريان حياة حيويًا للمجتمعات الريفية، خصوصًا في المناطق التي تعاني من الفقر والهشاشة. ويغطي هذا النشاط كافة مراحل سلسلة القيمة، بدءًا من جمع الصمغ وحتى تصديره.

قبل اندلاع الحرب، كان الإنتاج السنوي من الصمغ العربي يتراوح بين 60 إلى 80 ألف طن، يُصدَّر منه أكثر من 90% إلى الأسواق العالمية، مما جعل السودان المصدر الأول لهذا المنتج على مستوى العالم. وتُقدّر القيمة السوقية لهذا الإنتاج الخام بما يتراوح بين 120 إلى 180 مليون دولار سنويًا، لكن القيمة الحقيقية يمكن أن ترتفع بشكل كبير إذا تم تصنيع الصمغ وتحويله إلى منتجات صناعية نهائية.

تشمل هذه المنتجات النهائية المستحلبات الغذائية، المكملات الصحية، مستحضرات التجميل، والصناعات الدوائية، وقد تصل قيمتها في السوق العالمية إلى أكثر من 600 مليون دولار سنويًا، ما يعكس الإمكانيات الاقتصادية الهائلة غير المستغلة لهذا القطاع الحيوي

الأهمية الاقتصادية والاجتماعية للصمغ العربي

تنبع الأهمية العالمية للصمغ العربي من خصائصه الكيميائية والفيزيائية الفريدة، إذ يُستخدم كمادة رابطة ومثبتة في مجموعة واسعة من الصناعات. يُوظَّف في تصنيع المشروبات الغازية، والحلويات، والمستحلبات، كما يدخل في تركيبة منتجات الصناعات الدوائية، ومستحضرات التجميل، وصناعات النسيج والطباعة، وغيرها من التطبيقات الصناعية المتقدمة.

ويُستعمل الصمغ العربي في أكثر من 1,000 منتج تجاري يومي حول العالم، ما يضمن له طلبًا مستقرًا ومتزايدًا على المستوى الدولي. أما على المستوى المحلي، فإن هذا القطاع يساهم بشكل ملحوظ في توفير العملات الأجنبية وتعزيز أمن الدخل للمزارعين والمجتمعات الريفية، مما يعزز من دوره كمورد اقتصادي واجتماعي استراتيجي للدولة.

القطاع قبل الحرب: إمكانات معطلة

قبل اندلاع الحرب، كان الصمغ العربي يمثل ثالث أكبر مورد للعملات الصعبة في السودان بعد الذهب والحبوب الزيتية. وبحسب إحصائيات وزارة التجارة السودانية،كان حجم الصادرات يصل بين 110 و150 مليون دولار سنويًا، ويوفر فرص عمل موسمية ودائمة لصغار المنتجين، ويمثل عامل استقرار اجتماعي للمجتمعات الريفية. حاولت بعض الجهات تطوير القطاع عبر إدخال أصناف محسّنة من الأشجار، وتقديم حوافز لتقليل القطع الجائر للأشجار، وأطلقت مشاريع واعدة في التصنيع المحلي، لكنها ظلت محدودة بسبب ضعف البنى التحتية وغياب رؤية استراتيجية لتعظيم العائد الاقتصادي من هذا المورد الفريد.

تحديات القيمة المضافة في قطاع الصمغ العربي

رغم الأهمية الاقتصادية الكبيرة للصمغ العربي، يواجه السودان تحديات حقيقية في تحقيق القيمة المضافة من هذا المورد الاستراتيجي. فقبل اندلاع الحرب، كانت القيمة السوقية للإنتاج الخام تتراوح بين 120 إلى 180 مليون دولار سنويًا. لكن عند معالجة الصمغ وتحويله إلى منتجات صناعية نهائية، يمكن أن ترتفع هذه القيمة إلى ما بين 600 و800 مليون دولار سنويًا، ما يكشف عن فجوة ضخمة في العائدات المحتملة.

وتكمن إحدى أبرز العقبات في الرسوم والجبايات الباهظة التي تُفرض داخل السودان، والتي تصل إلى نحو 825 ألف جنيه سوداني للطن الواحد، مقارنةً بدول الجوار مثل تشاد والنيجر، حيث لا تتجاوز الرسوم غالبًا دولارًا واحدًا فقط للطن. هذا التفاوت الهائل أدى إلى عزوف المصدرين عن الطرق الرسمية، ودفع العديد منهم إلى التهريب كخيار عملي ووحيد، وهو ما يؤدي إلى فقدان مئات الملايين من الدولارات سنويًا من خزينة الدولة.

على سبيل المثال، فإن تصدير 60 ألف طن من الصمغ الخام بسعر متوسط يبلغ 3,000 دولار للطن يحقق عائدًا قدره 180 مليون دولار. أما في حالة تصنيع هذه الكمية إلى منتجات نهائية تُباع بسعر 10,000 دولار للطن، فإن العائد المحتمل يصل إلى 600 مليون دولار، مما يعني خسارة مباشرة تُقدّر بـ 420 مليون دولار سنويًا بسبب غياب الصناعة التحويلية.

وعلى مستوى الأسعار العالمية، يُباع الطن الواحد من الصمغ الخام بما يتراوح بين 2,500 و3,800 دولار حسب النوع والجودة. أما بعد التصنيع، فتتراوح القيمة بين 8,000 إلى 12,000 دولار للطن، أي ما يعادل أربعة أضعاف قيمة الصمغ الخام. هذا الواقع يضع السودان أمام معضلة اقتصادية حقيقية، حيث يخسر سنويًا ما لا يقل عن 400 إلى 600 مليون دولار نتيجة الاعتماد على التصدير الخام دون تصنيع محلي.

تُستخدم منتجات الصمغ العربي في مجموعة واسعة من القطاعات الصناعية، أبرزها:

  • المشروبات الغازية، كمادة مثبتة.
  • الصناعات الدوائية، لتثبيت المواد الفعالة.
  • مستحضرات التجميل، كمكوّن مرطّب.
  • الصناعات الغذائية، كمادة مكثفة ومحسنة للقوام.

وتُعد شركات كبرى مثل كوكاكولا، بيبسي، نستله، ويونيليفر من أبرز المستوردين للصمغ العربي، مما يعزز الموقع الاستراتيجي للسودان في سلاسل التوريد العالمية، إذا ما استُغلت هذه الميزة بشكل فعّال.

غير أن هذا الموقع الاستراتيجي مهدد بسبب مجموعة من العوامل السلبية، أبرزها:

  • انخفاض الثقة الدولية في منظومة الإنتاج والتصدير السودانية.
  • غياب شهادات الجودة والمواصفات العالمية.
  • نقص البنية التحتية الصناعية المتكاملة.
  • الانكماش الاقتصادي المستمر.
  • الانتشار الواسع للتهريب.

بالإضافة إلى ذلك، فإن تراجع أسعار الصمغ في السوق المحلي إلى ما دون 15,000 جنيه سوداني للقنطار أفقد المنتجين الحافز للاستمرار، وأسهم في تراجع الكفاءة الإنتاجية، ما يُنذر بتدهور مستمر في هذا القطاع الحيوي إن لم تُتخذ إجراءات جادة للإصلاح.

تأثير الحرب على قطاع الصمغ العربي في السودان

شهد قطاع الصمغ العربي السوداني أزمة حادة نتيجة الحرب التي اندلعت في أبريل 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. وقد توسعت العمليات العسكرية لتشمل ولاية الخرطوم ومناطق واسعة من دارفور وكردفان، وهي مناطق تُعد من أهم مراكز إنتاج الصمغ العربي في البلاد. تسبب القتال وتدهور الأوضاع الأمنية في نزوح مئات الآلاف من الأسر، كما لحقت أضرار جسيمة بمزارع الصمغ والبنية التحتية الحيوية، بما في ذلك الطرق، ومرافق التخزين، ووسائل النقل.

في ظل هذه الظروف، أصبح جمع الصمغ مهمة شديدة الخطورة. فقد انتشرت أعمال العنف، والنهب، والابتزاز من قبل الميليشيات المسلحة، مما دفع العديد من المنتجين إلى التوقف عن العمل أو اللجوء إلى التهريب عبر الحدود، كخيار اضطراري للاستمرار.

ووفقًا لتقارير صادرة عن منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) وبرنامج الأغذية العالمي (WFP)، انخفض حجم الإنتاج خلال موسم 2023/2024 إلى أقل من 40 ألف طن، مقارنة بمتوسط سنوي تراوح بين 80 و100 ألف طن قبل الحرب. كما أن أكثر من 40% من الإنتاج يتم تهريبه إلى دول الجوار مثل تشاد، جنوب السودان، والسنغال، حيث يُعاد تصديره تحت أسماء دول أخرى. هذا الوضع لا يقتصر على خسارة العائدات، بل يشكل أيضًا تهديدًا لسمعة السودان كمصدر عالمي رئيسي للصمغ العربي، ويحرمه من كميات كبيرة من العملات الصعبة.

إلى جانب ذلك، وردت تقارير عن استغلال الصمغ كمورد لتمويل الجماعات المسلحة، من خلال فرض إتاوات على المنتجين المحليين، أو السيطرة على عمليات النقل والتسويق. كما تعطلت سلاسل الإمداد، وتوقفت العديد من الشركات المحلية والأجنبية العاملة في القطاع عن العمل، مما أدى إلى تراجع حاد في عمليات التصدير الرسمية التي وصلت إلى أدنى مستوياتها.

أثر التحديات على المجتمعات الريفية

تنعكس التحديات التي تواجه قطاع الصمغ العربي بشكل مباشر على حياة ملايين السودانيين في المناطق الريفية، حيث يُعد هذا القطاع مصدر دخل رئيسي، إن لم يكن الوحيد، لعدد كبير من الأسر. ومع تراجع الإنتاج وتضاؤل فرص التصدير الرسمي، يعاني المنتجون من ضعف المردود الاقتصادي وقلة الخيارات لتحسين سبل معيشتهم.

في ظل غياب الدعم الحكومي الفاعل، سواء من حيث التمويل أو التدريب أو توفير البنية التحتية، يضطر معظم المنتجين إلى الاعتماد على أساليب تقليدية ومحدودة الإنتاجية في الزراعة وجمع الصمغ، وهو ما يزيد من هشاشة القطاع ويقلل من قدرته على الصمود أمام الأزمات الاقتصادية أو الأمنية.

هذه الظروف لا تؤثر فقط على الأمن الاقتصادي للمجتمعات الريفية، بل تمتد إلى زيادة معدلات الفقر والتهميش، وتدفع بالكثيرين نحو النزوح أو الانخراط في أنشطة غير رسمية مثل التهريب أو العمل في بيئات غير آمنة

الحلول والآفاق المستقبلية

لمعالجة التحديات التي يواجهها قطاع الصمغ العربي، لا بد من تبني حلول شاملة تبدأ بإيقاف الحرب وتنتهي بإعادة بناء سلاسل القيمة. وتشمل الأولويات التالية:

  1. الوقف الفوري للحرب وفرض السلام الشامل:

لا يمكن إنقاذ قطاع الصمغ العربي، ولا أي قطاع اقتصادي آخر، دون وقف فوري وشامل للحرب. فكل ما يتعلق بالإنتاج، التصدير، عودة النازحين، واستعادة الثقة المحلية والدولية، مرهون بإنهاء الصراع وعودة الأمن. استعادة سلطة الدولة وبسط سيادة القانون شرط أساسي لأي محاولة إصلاح أو تنمية.

  1. تعزيز الأمن والاستقرار في مناطق الإنتاج:

إلى جانب وقف الحرب، يجب اتخاذ خطوات فعلية لحماية المجتمعات المحلية، تأمين طرق النقل وخطوط الإمداد، وضمان سلامة عمليات الجمع والتسويق. كما ينبغي دعم عودة النازحين وتهيئة الظروف لفتح الأسواق المحلية والدولية.

  1. إقامة مشروعات صناعات تحويلية:

من الضروري تشجيع القطاعين العام والخاص على الاستثمار في إنشاء مصانع لتكرير وتحويل الصمغ العربي، مع تقديم حوافز ضريبية وجمركية، وتسهيل الشراكات المحلية والدولية لنقل التكنولوجيا وتوطين المعرفة الفنية، بما يسهم في تعظيم العائدات الوطنية وزيادة القيمة المضافة.

  1. مكافحة التهريب وتعزيز الرقابة:

ينبغي تكثيف الرقابة على الحدود وممرات التهريب، وتقديم دعم مادي وتقني لجمعيات المنتجين لضمان وصول العائدات إليهم عبر القنوات الرسمية. كما يجب إطلاق حملات توعية لتشجيع المنتجين على التسويق القانوني، وتوفير بدائل عملية تغنيهم عن اللجوء إلى التهريب.

  1. تمكين المنتجين ودعم المجتمعات الريفية:

يُعد تمكين المجتمعات المنتجة خطوة محورية في استدامة القطاع، ويشمل ذلك تأسيس جمعيات تعاونية قوية قادرة على التفاوض مع الوسطاء والشركات الكبرى بشفافية، إضافة إلى إدماج المرأة والشباب في كافة مراحل سلسلة القيمة، من الإنتاج إلى التسويق.

خاتمة تحليلية:

لقد كشفت الحرب، بكل ما خلفته من تداعيات كارثية على قطاع الصمغ العربي، عن حجم التحديات البنيوية التي تقيد هذا المورد، وأظهرت هشاشة البنية المؤسسية والفنية والتشريعية التي تديره. كما أبرزت الحاجة العاجلة إلى تجاوز مرحلة تصدير المادة الخام والانتقال إلى تطوير صناعات تحويلية ذات قيمة مضافة، قادرة على خلق فرص عمل، وزيادة العائدات، وتعزيز موقع السودان في الأسواق العالمية.

تُجسّد الأزمة الحالية في السودان اختبارًا حقيقيًا لقدرة الدولة والمجتمع على الحفاظ على الموارد الحيوية وتوظيفها في خدمة التنمية المستدامة. ويُعد الصمغ العربي من بين أهم هذه الموارد، ليس فقط لقيمته الاقتصادية أو لاستخداماته الصناعية المتعددة، بل لكونه موردًا استراتيجيًا يمكن أن يُسهم بفاعلية في إعادة بناء المجتمعات الريفية وتعزيز صمودها في مواجهة الأزمات والتحولات السياسية التي تعصف بالبلاد.

ولا يقلل أحد من أهمية الصمغ العربي كأحد الموارد الطبيعية الاستراتيجية في سودان ما بعد الحرب. لكن تركه يُباع كخام دون معالجة ليس فقط هدرًا اقتصاديًا، بل تقاعسًا عن استثمار مورد وطني قادر على توليد مئات الملايين من الدولارات سنويًا. إن تطوير هذا القطاع ليس خيارًا، بل ضرورة وطنية، اقتصادية وبيئية.

إن استعادة مكانة السودان كمصدر موثوق وفاعل للصمغ العربي تتطلب وقف الحرب بشكل عاجل، وبناء سلام دائم، وإصلاحات اقتصادية عميقة، وتنمية صناعية شاملة، وتحديث أدوات الإنتاج، إلى جانب تأسيس شبكة حماية اجتماعية عادلة. وحده هذا المسار سيحوّل الصمغ العربي من مورد مضيع إلى قوة دافعة لاقتصاد ناهض يعيد السودان إلى موقعه الطبيعي في خارطة التنمية.

لقد كشفت الحرب، بكل ما خلفته من تداعيات كارثية على قطاع الصمغ العربي، عن حجم التحديات البنيوية العميقة التي تُقيد هذا المورد، وأظهرت هشاشة البنية المؤسسية والفنية والتشريعية التي تديره. كما أبرزت الحاجة العاجلة للانتقال من تصدير المادة الخام إلى بناء قاعدة صناعات تحويلية قائمة على القيمة المضافة، تسهم في خلق فرص العمل، ورفع العائدات، وتعزيز قدرة السودان على المنافسة في السوق العالمية.

المراجع:

Chicago Manual of Style

  1. Food and Agriculture Organization of the United Nations (FAO). *Reports on Gum Arabic Production and Agricultural Challenges in Sudan*. Accessed June 2024. http://www.fao.org.
  2. World Food Programme (WFP). *Food Security Assessments and Impact of Conflicts on Rural Communities in Sudan*. Accessed June 2024. https://www.wfp.org.
  3. Ministry of Trade and Industry, Sudan. *Annual Export Statistics and Economic Importance of Gum Arabic*. Accessed June 2024. Official reports.
  4. World Trade Organization (WTO). *International Trade Reports on Gum Arabic and Global Market Analysis*. Accessed June 2024. https://www.wto.org.
  5. United States Agency for International Development (USAID). *Research and Reports on Agricultural and Economic Development in Sudan*. Accessed June 2024. https://www.usaid.gov.
  6. Sudanese Forestry Research Center and University of Khartoum. *Local Studies on Gum Arabic Cultivation and Quality*. Various research papers and publications.
  7. United Nations Reports on Sudan Conflict. *Assessments of Economic and Social Impacts of Armed Conflict*. Accessed June 2024.

[email protected]

altaghyeer.info