خبر ⁄تقني

بين القلق والقبول... كيف ومتى يفكر الناس في مشاركة بياناتهم

بين القلق والقبول... كيف ومتى يفكر الناس في مشاركة بياناتهم

في عالم اليوم، القائم على البيانات، لم تعد قضايا الخصوصية نظرية أو غامضة. من الأجهزة القابلة للارتداء والتطبيقات إلى المكاتب الذكية وأنظمة المراقبة في المدن، تُجمع بياناتنا باستمرار. ومع أن النقاش حول خصوصية البيانات غالباً ما ينحصر بين مواقف متشددة تدعو للحماية التامة أو الانفتاح الكامل، فإن دراسة جديدة من معهد ماساتشوستس للتقنية (MIT) تكشف عن واقع أكثر مرونة. تفيد الدراسة بأن نظرة الناس إلى الخصوصية تتشكل وفقاً للسياق، وطريقة استخدام البيانات، والجهة المستفيدة منها.

لعبة للكشف عن مواقف الناس من الخصوصية

فريق من الباحثين، في «مختبر المدينة القابلة للاستشعار» (Senseable City Lab) التابع للمعهد، طوّر طريقة مبتكرة لدراسة هذا التوازن. وبدلاً من استخدام الاستبيانات التقليدية، أنشأ الفريق لعبة بطاقات تفاعلية تُدعى «داتا سلوتس» (Data Slots) تتيح للمشاركين تقييم التنازلات التي يمكنهم قبولها بين حماية الخصوصية والاستفادة من البيانات في مجالات الحياة المختلفة. وقد لُعبت هذه اللعبة حضورياً في 18 دولة، ومن خلال الإنترنت في أكثر من 70 دولة أخرى، لتكشف أن الخصوصية ليست قيمة مطلقة، بل قرار يتخذه الناس، حسب كل حالة.

يقول فابيو دوارتي، الباحث الرئيسي في المختبر وأحد مؤلفي الدراسة، إنه لا توجد قيمة مطلقة للخصوصية. فحسب طبيعة الاستخدام، قد يشعر الأفراد أن بياناتهم تُستخدم بشكل مزعج أو مقبول. هذه النتيجة مهمة في عالم تعتمد فيه الحكومات والشركات بشكل متزايد على البيانات الشخصية لتقديم الخدمات وتحسين الكفاءة وتخصيص التجربة.

تفيد الدراسة بأن الشفافية والمشاركة تعززان الثقة وتقللان من مخاوف الناس تجاه جمع البيانات (أدوبي)

أنواع البيانات وطريقة التفاعل معها

في اللعبة، يتلقى اللاعبون بطاقات تمثل 12 نوعاً من البيانات الشخصية، مثل السجلات الصحية ومواقع المركبات واستهلاك الكهرباء وصحة الحيوانات. ويُطلب منهم ابتكار سيناريوهات لاستخدام تلك البيانات، ثم تقييمها واستثمار «رموز» افتراضية في الأفكار التي يعتقدون أنها تحقق توازناً جيداً بين الفائدة والخصوصية.

على سبيل المثال، أظهرت النتائج أن المستخدمين يحتفظون غالباً ببطاقات تتعلق بالتحركات الشخصية والصحة، ما يدل على حساسيتها. لكن، في المقابل، أبدوا مرونة أكبر عندما يكون استخدام البيانات مقروناً بفوائد واضحة، مثل تحسين جودة الهواء في أماكن العمل أو تعزيز السلامة العامة.

الشفافية والمشاركة تقلّلان من القلق

توضح الدراسة أن الناس يصبحون أكثر قبولاً لمشاركة بياناتهم عندما يشعرون أنهم جزء من القرار ويُطلعون بشكل واضح على طريقة استخدام البيانات. يقول دوارتي: «إذا كانت الشركات أو الجهات الحكومية شفافة بشأن ما ستفعله بالبيانات، وإذا أُشرك الناس في ابتكار أفكار لاستخدامها، فإن القلق بشأن الخصوصية يقلّ كثيراً».

هذه الرؤية، أي أن المشاركة والشفافية أساس بناء الثقة، تكتسب أهمية كبيرة في زمن تنتشر فيه المخاوف من إساءة استخدام البيانات والمراقبة. لكن الدراسة تقترح مساراً بديلاً. فبدلاً من فرض سياسات بيانات صارمة من الأعلى، يمكن أن تستفيد الحكومات والمؤسسات من إشراك المجتمع مباشرة في تحديد كيفية جمع البيانات واستخدامها.

تشرح الدراسة أن الخصوصية ليست مبدأً مطلقاً بل قرار يعتمد على السياق والغرض من استخدام البيانات

خصوصية مرنة في سياق المدن الذكية

تُعدّ هذه النتائج ذات أهمية خاصة في المدن، حيث تلعب التكنولوجيا والبيانات دوراً متزايداً في التخطيط والتنقل والصحة العامة. ويشير كارلو راتّي، مدير المختبر، إلى أن إشراك المواطنين في اتخاذ قرارات البيانات يمكن أن يساعد المدن على صياغة سياسات أكثر واقعية. فعلى سبيل المثال، يمكن للبلديات جمع بيانات حركة المرور أو جودة الهواء، لكنّ مدى خصوصية هذه البيانات وكيفية استخدامها يجب أن تُحدَّدا بمشاركة الجمهور. كما تشير النتائج إلى أنه لا توجد وصفة واحدة تناسب الجميع. ففي بعض الحالات، يكون الناس على استعداد للتنازل عن بعض الخصوصية من أجل منفعة عامة. وفي حالات أخرى، مثل ربط البيانات الصحية بالهوية الشخصية، تظهر مقاومة شديدة. تقول الباحثة المشاركة مارتينا ماتزاريليو: «قد يبدو الاستخدام تدخلياً، لكن إذا عاد بالنفع مثل بيئة عمل صحية أكثر، فقد يكون التنازل مقبولاً».

نحو أنظمة أكثر استجابة للناس

تقدم هذه الدراسة تذكيراً مهماً بأن طريقة حديثنا عن خصوصية البيانات تحتاج إلى تطوير. فالخصوصية لم تعد فقط مسألة حماية معلومات، بل تتعلق ببناء أنظمة شفافة، وتشاركية، وتستجيب لتوقعات الناس. ويمكن للابتكار القائم على البيانات أن يزدهر، لا للثقة، بل من خلالها. ففي زمن تعيد فيه التكنولوجيا تشكيل كيفية عملنا وتواصلنا وحُكمنا، قد لا يكون الحلّ في قوانين شاملة موحدة، بل في أطر مرنة تتيح التفاوض على الخصوصية حسب السياق.

الرسالة الأساسية للدراسة تفيد بأن الخصوصية ليست مبدأ مطلقاً، بل قرار اجتماعي يتشكّل وفقاً للسياق، ويمكن التفاوض عليه عندما تكون هناك شفافية وفوائد ملموسة للمستخدمين.

aawsat.com